{ حديث : "لبس النعل عند القبر" }
نص الحديث الأول :
حَدَّثَنَا
سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ عَنْ خَالِدِ بْنِ
سُمَيْرٍ السَّدُوسِىِّ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ بَشِيرٍ مَوْلَى رَسُولِ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ اسْمُهُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ زَحْمُ بْنُ
مَعْبَدٍ فَهَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « مَا
اسْمُكَ ». قَالَ زَحْمٌ. قَالَ « بَلْ أَنْتَ بَشِيرٌ ». قَالَ بَيْنَمَا أَنَا
أُمَاشِى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ
فَقَالَ « لَقَدْ سَبَقَ هَؤُلاَءِ خَيْرًا كَثِيرًا ». ثَلاَثًا ثُمَّ مَرَّ
بِقُبُورِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ « لَقَدْ أَدْرَكَ هَؤُلاَءِ خَيْرًا كَثِيرًا
». وَحَانَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَظْرَةٌ فَإِذَا رَجُلٌ
يَمْشِى فِى الْقُبُورِ عَلَيْهِ نَعْلاَنِ فَقَالَ « يَا صَاحِبَ
السِّبْتِيَّتَيْنِ وَيْحَكَ أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ ». فَنَظَرَ الرَّجُلُ
فَلَمَّا عَرَفَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَلَعَهُمَا فَرَمَى
بِهِمَا.[1]
نص الحديث الثاني :
ما
روى البُخاريُّ [2]
ومُسلمٌ [3]
والّلفظ له - عن أنس بن مالك -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلّى الله عليه
وسلّم -:« إنَّ الميِّت إذا وُضِع في قَبْره، إنَّه لَيَسمع خَفْق نِعالِهم إذا
انْصرفوا».
غريب الحدبث:
(لقد
سبق هؤلاء خيرا كثيرا): والمعنى فاتهم خير كثير، وخرجوا منه، ولم يعلقوا منه بشيء.[4]
(وحانت
من رسول الله نظر) أي: وقعت منه نظرة من حان إذا قرب.[5]
(السبتية)
من النعال ما كان مدبوغا بالقرظ.[6]
السبة- بكسر السين وسكون الباء الموحدة- جلود البقر المدبوغة بالقرب، يتخذ منها
النعال، سميت بذلك لأن شعرها قد سبت عنها، أي: حلق وأزيل، وقيل: لأنها انْسَبَتَتْ
بالدباغ.[7]
(ويحك)
كلمة ترحم وشفقة، وعكسها ويلكم.[8]
(قرع
نعالهم): صوت دوس النعال على الأرض.[9]
وجه
التعارض:
فهذا
الحديث الأول صريح في منع المشي بين القُبور بالنِّعال يُعارضه حديثٌ آخر فُهِم
منه جواز المشي بين القبور بالنِّعال .
حل التعارض وقول
العلماء في الحديث:
فيُفهم
من هذا الحديث جواز المشي بين القُبور بالنِّعال، وإلا لم يقل: "ليَسْمع
خَفْقَ نِعالِهم". وهذا ما فهمه غيُر واحدٍ من العلماء من هذا الحديث ومنهم
الطَّحاويُّ ، إذ قال قبل روايته لهذا الحديث: وقد رُوي عن رسول الله - صلّى الله
عليه وسلّم - ما يدلُّ على إباحة المشي بين القُبور بالنِّعال، ثُمَّ ساق هذا
الحديث. [10]
ولإزالة هذا التَّعارض الوارد بين الحديثين لجا بعض العلماء إلى الجمع بينهما وذهب
آخرون إلى التَّرجيح.
1
- طريقة الجمع:
أمَّا
الّذين ذهبوا إلى الجمع فقد قال بعضهم: إن النَّهي الّذي كان في حديث بشير - أي
الحديث الأول - للنجاسة التي كانت في النعلين لئلا ينجس القبور، كما قد نهى أن
يتغوط عليها أو يبال. والى هذا الرأي ذهب الطحاوي[11]
والبيهقي[12]
، وأبو عبيد[13]
وذكره النووي[14]
كأحد أوجه الجمع بين الحديثين.
ولم
يقبل هذا الفهم ، لأن فيه نظر . لو كان في النعل قذر أو نجاسة لنقل هذا في إحدى
روايات الحديث ، ولهذا شنّ ابن حزم بأسلوبه المعهود هجوما على أصحاب هذا الرأي
فقال[15]
: "وقال بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه فقال: لعل تينك النعلين كان فيهما
قذر." قال أبو محمد - أي ابن حزم - : من قطع
بهذا فقد كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، اذ قوله ما لم يقل، ومن لم
يقطع بذلك فقد حكم بالظن، وقفاما لا علم له به".
واتفق
لطفي بن محمد الزغير على استنتاج ابن حزم مع رده بكلامه الشديد ، حيث قال :
فاني وان لم أوافق ابن حزم على عباراته، الا اني أرضى استنتاجه.[16]
وذكر
النووي رأيه في المجموع شرح المهذب ، قال : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
هذه النعال لما فيها من الخيلاء، فأحب صلى الله عليه وسلم أن يكون دخوله المقابر
على زي التواضع ولباس أهل الخشوع.[17]
وذهب آخرون
الى أنه - صلى الله عليه وسلم - وانما نهى عن النعال السبتية - وهي المدبوغة
بالقرظ - لما فيها من الخيلاء، قال الخطابي: "وذلك أن نعال السبت من لباس أهل
الترفه والتنعم."[18] وقال أبو عبيد : وانما ذكرت السبتية لأن أكثرهم في الجاهلية
كان يلبسها غير مدبوغة، الا أهل السعة منهم والشرف.[19]
وهناك
رأيٌ آخر في الجمع هو لابن حزم ، اذ أنه رأى أن النهي عن المشي بين القبور مختص
بالنعال السبتية، لأنها سبتية دون أن يعلل جريا منه على حمل المراد على ظاهر
اللفظ، فقال بعد رواية حديث "ان العبد اذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه انه
ليسمع قرع نعالهم" فهذا اخبار منه عليه السلام بما يكون بعده، وأن الناس من
المسلمين سيلبسون النعال في مدامن الموتى الى يوم القيامة على عموم انذاره عليه
السلام بذلك، ولم ينه عنه، والأخبار لا تنسخ أصلا، فصح اباحة لباس النعال في
المقابر، ووجب استثناء السبتية منها، لنصه - عليه السلام عليها.[20]
وإلى
هذا الراي الأخير مال القاضي أبو يعلى حيث قال : "ذلك مختص بالنعال
السبتية لا يتعداها الى غيرها، لأن الحكم تعبدي غير معلل، فلا يتعدى مورد
النص." [21]
وقال
عبدالمحسن العباد في شرح سنن أبي داود : ويمكن أن يجمع بينهما بأن هذا الحديث لا
يلزم منه أن يكون المشي بين القبور، وإنما قد يكون في المقبرة فضاء فيمشي الناس في
ذلك الفضاء بنعالهم حتى يصلوا إلى القبور ثم يخلعونها، وعند الانصراف إذا وصلوا إلى
ذلك الفضاء في المقبرة لبسوا نعالهم، وإنما المحذور إذا مشوا بها بين القبور،
فالناس عندما يدفنون في المقبرة فإنهم يبدءون من آخرها ثم تتصل القبور حتى تصل إلى
الباب، فهذه المنطقة التي يمشون فيها هي تلك المنطقة التي لم يكن فيها قبور، فهم
يمشون إذاً في أرض لا قبور فيها وإن كانت في داخل مقبرة، فيحمل هذا الحديث على هذا
المعنى، ولا يلزم أن يكون المشي بين القبور.[22]
وقال
ابن الأثير : "دائما أمره بالخلع احتراما للمقابر، لأنه كان يمشي بينها،
وقيل: لأن كان بها قذرا، أو لاختياله في مشيه، ومنه حديث ابن عمر: "قيل له:
إنك تلبس النعال السبتية، إنما اعترض عليه لأنها نعال أهل النعمة والسعة."[23]
وقال
الخطابي : "وخبر أنس يدل على جواز لبس النعال لزائر القبور، وللماشي بحضرتها،
وبين ظهرانيها، فأما خبر السبتيتين فيشبه أن يكون إنما كره ذلك لما فيها من
الخيلاء، وذلك أن يقال: السِّبت من لباس أهل اقترفه والتنعم."[24]
2 – طريقة
الترجيح :
أما الذين
ذهبوا إلى الترجيح فقد تمسكوا بظاهر النهي، وحملوا المراد بالنعال على العموم ولم
يخصوها بالسبتية. فقد نقل ابن القيم ، أن الامام أحمد قال عن إسناد هذا الحديث
الذي فيه النهي: انه جيد، وأنه يذهب اليه الا من علة.[25]
وقال ابن
القيم عن تعارض الحديثين : "وأما معارضته بقوله - صلى الله عليه وسلم - :
"إنه يسمع قرع نعالهم." فمعارضة فاسدة فان هذا إخبار من النبي - صلى
الله عليه وسلم - بالواقع ، وهو سماع الميت قرع نعال الحي، وهذا لا يدل على الاذن
في قرع القبور والمشي بينها بالنعال، اذ الاخبار عن وقوع الشيء لا يدل على جوازه
ولا تحريمه ولا حكمه، فكيف يعارض النهي الصريح به."[26]
والى قريب
منها ذهب ابن حجر رحمه الله فقال بعد حكايته الحديث: " واستدل به على جواز
المشي بين القبور ولادلة فيه..."[27]
وقال أيضا: وأما قول الخطابي يشبه أن يكون النهي عنهما لما فيهما من الخيلاء
فإنَّه متعقَّب بأنَّ ابن عمر كان يلبس النِّعال السِّبْتيَّة ويقول: إنَّ
النَّبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - كان يلبسها، وهو حديثٌ صحيحٌ .[28]
الخلاصة:
لا يمنع كون
النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس هذه النعال في حياته المعتادة أن ينهى عنها
عند دخول المقابر، لأنه لا يتلاءم مع ما يجب أن يكون عليه المؤمن من خشوع وخضوع
وتواضع، لذا ومال الباحث على رأي الخطابي مع هذه الملاحظة التي ربما فاتت البعض من
العلماء وبنه عليها النووي كما ذكرنا سابقا. وبهذا يزول التعارض دون الحاجة الى
إهمال أحد الحديثين.
والله أعلم
بالصواب
[1] سنن أبي داود : 3 / 210. وحسنه الألباني. السنن الكبرى للبيهقي
: 4 / 80. المستدرك على الصحيحين للحاكم : 1 / 373 وصححه .
[3] الصحيح،كتاب الجنة وصفة نعيمها :4/2201 رقم(71)،كما رواه أبو
داود ،كتاب الجنائز:3/217، وأحمد في "المسند": 3/233، والبَيْهقي في
"السنن الكبرى" :4/80 والطَّحاوي في "شرح معاني الآثار":1/510
من حديث أبي هُريرة .
[4] شرح سنن أبي داود ، بدر الدين العينى : 6/186، مكتبة الرشد –
الرياض ، الطبعة : الأولى ، 1420 هـ -1999 م.
[28] اخرجه البخاري ،الوضوء /30 غسل الرجلين في النعلين :1/50 ،
واللباس/ 37 النعال السِّبتِيَّة: 7/48، ومسلم ، الحج / الإهلال من حيث ينبعث
الراحلة:2/844 ، وأبو داود،المناسك / في وقت الإحرام :2/150 رقم (1772)، وغيرهم في
سياق حديثٍ طويلٍ .
Tidak ada komentar:
Posting Komentar