Kamis, 09 Februari 2012

المنطوق والمفهوم من الحديث النبوي


المنطوق والمفهوم من الحديث النبوي
بحث مقدم في  مادة  منهج فهم الحديث 
جمع وترتيب:
الطالب محمد صريح الخالد

تحت إشراف:
فضيلة الأستاذ الدكتور أحسن سخاء محمد


 جامعة علوم القرآن بجاكرتا كلية الدراسات العليا
قسم علوم الحديث
1431هـ 2012 مـ

مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده رسوله، أدّى الأمانة ونصح للأمة فكشف الله به الغمة وجاهد فى الله حق جهاده حتى أتاه اليقين وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. أما بعد...
إن استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية يتوقف على أمور كثيرة ، منها فهم أساليب اللغة العربية ، ليتمكن المستنبط من ربط النصوص بعضها مع بعض ، بحيث يحمل العام على مخصصه، والمطلق على مقيده ، والمجمل على مبينه ... وبها يتمكن من معرفة دلالة الألفاظ على المعاني من حيث درجات الخفاء ومراتب الوضوح.
ومن المعارف التي يلزم لطلبة علم الحديث فهمها ، ولا سيما لأعضاء مجلس كوادر العلماء بإندونيسيا (MKUI)، هو المنطوق والمفهوم من الحديث . وهما بحثان مهمان في علم أصول الفقه وعلوم القرآن ولا يترك الأصولييون وعلماء علوم القرآن البحث في كتبهم . ولكن من الأسف – بعد أن بذلنا الجهد وراجعنا الكتب – لم نجد ذلك البحث في كتب علوم الحديث . وهذا البحث الذي قدمناه لكم بهذا اليوم رتبنا وجمعنا من كتب علوم القرآن وأصول الفقه .
وفي هذا البحث نود أن نقف في أمور خاصة تتعلق بالمنطوق والمفهوم ، منها :
1-               تعريف المنطوق والمفهموم
2-               أقسام المنطوق والمفهوم
3-               شروط الاحتجاج بالمفهوم
4-               وماذا نقدم بين المنطوق والمفهوم
وإلى الله نرجو أن يوفقنا إلى الصواب.
المنطوق والمفهوم
دلالة الألفاظ على المعاني قد يكون مأخذها من منطوق الكلام الملفوظ به نصاً أو احتمالاً بتقدير أو غير تقدير، وقد يكون مأخذها من مفهوم الكلام سواء وافق حكمها حكم المنطوق أو خالفه- وهذا هو ما يسمى: بالمنطوق والمفهوم.
المنطوق لغة :
قال ابن منظور في اللسان: اسم مفعول من نَطَقَ – يَنْطِقُ - نُطْقاً أى تكلم .[1] فالمنطوق هو الملفوظ به.[2]
وقال أبو الفيض مرتضى الزَّبيدي ، صاحب "تاج العروس" : نطَق – ينْطِق – نُطْقاً و َنطْقاً بالفَتْح ونُطوقاً وهو : تكلّم بصوْت .[3]
وقال الفيروزآبادي في القاموس المحيط : نَطَقَ يَنْطِقُ نُطْقاً ومَنْطِقاً ونُطوقاً : تَكَلَّمَ بصَوْتٍ وحُروفٍ تُعْرَفُ بها المَعاني .[4]
وأما الْمَنْطُوقُ اصطلاحاً:
هو مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ أَيْ يَكُونُ حُكْمًا لِلْمَذْكُورِ.[5] أى أن دلالته تكون من مادة الحروف التى ينطق بها.[6]  ووافقه الشيخ زكريا الأنصارى في كتابه "غاية الوصول في شرح لب الأصول".[7]
وعرفه ابن الحاجب بقوله : « ما دل عليه اللفظ في محل النطق »[8] وعرفه الآمدي بقوله : « ما فهم من دلالة اللفظ قطعا في محل النطق »[9]
وهو عند الدكتور إدريس حمادي : « ما دل عليه اللفظ في محل النطق بأن يكون حكما للمذكور وحالا من أحواله ، سواء ذكر ذلك الحكم ونطق به أم لا »[10]
وقال في المعجم الوسيط : ( المنطوق ) ( عند الأصوليين ) خلاف المفهوم وهو مجرد دلالة اللفظ دون نظر إلى ما يستنبط منه .[11] وعرفه الأستاذ العربي اللوه بقوله : « ما يفهم من اللفظ في محل النطق بأن ينصرف إليه الذهن مباشرة بمجرد النطق به »[12]
وعلق على تعريفه هذا بقول الآمدي في الإحكام : « والمنطوق وإن كان مفهوما من اللفظ ، غير أنه لما كان مفهوما من دلالة اللفظ نطقا خص باسم المنطوق وبقي ما عداه معرفا بالمعنى العام المشترك تمييزا بين الأمرين »[13]
ورغم الاختلافات اللفظية الطفيفة بين هذه التعاريف فإن مؤداها واحد ، وهو أن المنطوق هو : ما يؤخذ من اللفظ من أحكام دون التفات إلى معقوله وروحه . وهذا ما أجمع عليه كل من عرف المنطوق من المتقدمين والمتأخرين .

فنذكر الأمثلة مما يلي:
في قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلاَ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ »[14] فالمنطوق في هذا الحديث هو عدم صحة الصلاة بغير طهور ورد الصدقة من غلول.
وفي الحديث : "تُقْطَعُ اَلْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا "[15]  المنطوق في هذا الحديث : أن السارق تقطع يده إذا سرق ربع دينار أو أكثر، وأما المفهوم منها : السارق لا تقطع يده إذا سرق أقل من ربع دينار .
قولُهُ تعالى : {وأقيموا الصلاة} فقد دلَّ هذا اللفظ بمنطوقه على إقامة الصلاة.
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم  آكِلَ اَلرِّبَا, وَمُوكِلَهُ, وَكَاتِبَهُ, وَشَاهِدَيْهِ, وَقَالَ: " هُمْ سَوَاءٌ ".[16] المنطوق من الحديث أنه حرم الربا لآكله وموكله وكاتبه وشاهديه .
مثلا قول النبي- صلى الله عليه وسلم-:« في سائمة الغنم الزكاة » السائمة كما تعلمون التي ترعى أكثر الحول، تأخذ من العبادات اللي أمامك أنه لا زكاة إلا في السائمة، فالطريقة هذه تسمى استنباط الحكم من المنطوق.
ومثل الحديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الْوِصَالِ قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ. قَالَ « إِنِّى لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّى أُطْعَمُ وَأُسْقَى »[17] ، فالمنطوق لهذا الحديث تحريم الوصال في الصوم .
أقسام المنطوق
قَسَّمَ ابْنُ الْحَاجِبِ الْمَنْطُوقَ إلَى القسمين :
الأول ، المنطوق الصَّرِيحُ : هو دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ مُطَابَقَةً أَوْ تَضَمُّنًا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا .[18] واختار الدكتور إدريس حمادي تعريف التفتزاني للمنطوق الصريح في قوله : « دلالة اللفظ على ما وضع له بالاستقلال أو بمشاركة الغير، فيشمل المطابقة والتضمن »[19] وهذه التعاريف مجتمعة تدل على أن المنطوق الصريح هو : ما يدل على معناه بالمطابقة أو التضمن .[20]
ومن أمثلة المنطوق الصريح : دلالة قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } على تحليل البيع وتحريم الربا ، ودلالة قوله تعالى : { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } على تحريم التأفف والنهر للوالدين .
والثاني ، المنطوق غَيْرُ الصَّرِيحِ : هو دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ بَلْ يَلْزَمُ مَا وُضِعَ لَهُ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ . وَيَنْقَسِمُ غَيْرُ الصَّرِيحِ ثلاثة أقسام: دَلَالَةِ اقْتِضَاءٍ ، وَدَلَالَةِ إشَارَةٍ ، وَدَلَالَةِ إيمَاء.[21]
وجاء في الخطاب الشرعي قوله : « ما لم يوضع اللفظ له بل يلزم مما وضع له، فيدل عليه بالالتزام »[22]
وورد في تفسير النصوص أن المنطوق غير الصريح هو : « دلالة اللفظ على الحكم بطريق الالتزام »[23]
ويشمل المنطوق عند الأصوليين على ثلاثو أنواع وهي: النص، والظاهر ، والمؤول. والشرح كما يلى :
فالنص: هو ما يفيد بنفسه معنى صريحاً لا يحتمل غيره. كقوله تعالى {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} (البقرة - 196) فإن وصف عشرة بكاملة قطع احتمال العشرة لما دونها مجازاً . وهذا هو الغرض من النص . و نحو : جاء زيد فإنه مفيد للذات المشخصة من غير احتمال لغيرها. لا يحتمل أحمد ولا محمد ، ولا عبدالله .
والعمل بالنص واجب إذا لم يوجد أي علامة يصرف المعنى إلى معنى آخر بطريقة التأويل . مثاله في مسألة التعدد بالزوجات في الإسلام ؛ المباح في الإسلام للرجل أن يتزوج أربعة نساء . وهذا ما وقع في رجل اسمه غيلان الثقفى ، حيث أنه حينما أسلم عنده عشر نسوة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : {أمسك عليك أربعا وفارق سائرهن}.[24] فالأربع في هذا الحديث يفيد معنى صريحا في العدد ولا يحتمل أي تأويل آخر، فلذلك يجب عليه أن يطلق ستا منها.
مثال آخر: في الحديث : {طلق أيتهما شئت}[25] في حال الرجل الذي أسلم وعنده زوجتين أختين ؛ ففي المذهب الشافعي ، أجيز للرجل أن يختار منهما حيث شاء .
مثال آخر: في الحديث : {في أربعين شاة شاة}[26] فالزكاة التي يجب على المالك إخراجه شاة واحدة ولا يجوز تبديله بمال آخر مساوى القدر.
والظاهر: هو ما يسبق إلى  الفهم منه عند الإطلاق معنى مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحاً، فهو يشترك مع النص في أن دلالته في محل النطق، ويختلف عنه في أن النص يفيد معنى لا يحتمل غيره، والظاهر يفيد معنى عند الإطلاق مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحاً .
كقوله تعالى {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} (البقرة - 173) فإن الباغي يطلق على الجاهل ويطلق على الظالم، ولكن إطلاقه على الظالم أظهر وأغلب فهو إطلاق راجح، والأول مرجوح.
وكقوله {ولا تقربوهن حتى يطهرن} (البقرة - 222) فانقطاع الحيض يقال فيه طهر، والوضوء والغسل يقال فيهما طهر؛ ودلالة الطهر على الثاني أظهر، فهي دلالة راجحة، والأولى مرجوحة.
والمؤول: هو ما حمل لفظه على المعنى المرجوح لدليل يمنع من إرادة المعنى الراجح، فهو يخالف الظاهر في أن الظاهر يحمل على المعنى الراجح حيث لا دليل يصرفه إلى  المعنى المرجوح. أما المؤول فإنه يحمل على المعنى المرجوح لوجود الدليل الصارف عن إرادة المعنى الراجح. وان كان كل منهما يدل عليه اللفظ في محل النطق، كقوله تعالى {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} (24- الإسراء) فإنه محمول على الخضوع والتواضع وحسن معاملة الوالدين. لاستحالة أن يكون للإنسان أجنحة.
دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة ودلالة إيماء
كما ذكرنا سابقا أن المنطوق غير صريح ينقسم إلى ثلاث؛ الأول: قد تتوقف صحة دلالة اللفظ على إضمار، وتسمى بدلالة الاقتضاء ؛ والثاني: قد لا تتوقف على إضمار ويدل اللفظ على ما لم يقصد به قصدا أولياً، وتسمى دلالة الإشارة ؛ والثالث: قد تقصد به ولم يتوقف على إضمار وتسمى دلالة إيماء :
فدلالة الاقتضاء: أي فدلالة اللفظ الالتزامية على معنى المضمر المقصود[27] ، كقوله تعالى {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} (184- البقرة). أي فأفطر فعدة. لأن قضاء الصوم على المسافر إنما يجب إذا أفطر في سفره، أما إذا صام في سفره فلا موجب للقضاء خلافا للظاهرية.
وعرف السرخسي دلالة الاقتضاء بأنها : « عبارة عن زيادة على المنصوص عليه يشترط تقديمه ليصير المنظوم مفيدا أو موجبا للحكم ، وبدونه لا يمكن إعمال المنظوم »[28] ، فقوله : "زيادة على المنصوص عليه" ، هو "المقتضى" الذي يجب تقديره ليصبح المنظوم مفيدا لإعمال الكلام ، فإذا لم نقدر هذا المقتضى كان الكلام كاذبا أو غير صحيح شرعا أو غير مقبول عقلا ، والشارع الحكيم لا يصدر عنه كلام كاذب ولا باطل شرعا ولا غير معقول .
وعرف متأخرو الحنفية دلالة الاقتضاء بقولهم : « ما أضمر لصحة الكلام شرعا »[29]
وقوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم} (23- النساء) فإنه يتضمن إضمار الوطء ويقتضيه، أي "وطء أمهاتكم " لأن التحريم لا يضاف إلى الأعيان، فوجب لذلك إضمار فعل يتعلق به التحريم وهو الوطء.
وفي الحديث : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» لا بد من تقدير محذوف أي : ذنب الخطأ والنسيان ، ولولا هذا التقدير لكان الخبر كاذبا ، لأن الخطأ نفسه واقع ، وإنما الذي رفع المؤاخذة عليه .
ونحو : «لا عمل إلا بنية » أي : لا عمل صحيح ، فلولا هذا الإضمار لكان المخبر غير صادق ، فإن صورة العمل توجد بلا نية
وأما دلالة الإشارة : أي دلالة اللفظ على ما لم يقصد به.[30]
فهي عند الغزالي « ما يتسع له اللفظ من غير تجريد قصد إليه »[31] ، وعرفها ابن السبكي : « ... ودل " أي اللفظ " على ما لم يقصد فدلالة إشارة »[32]، فهي دلالة اللفظ « على لازم غير مقصود للمتكلم لا يتوقف عليه صدق الكلام ولا صحته »[33]
وعرفها البزدوي من الحنفية بقوله : « العمل بما ثبت بنظمه لغة لكنه غير مقصود ولا سيق له النص ، وليس بظاهر من كل وجه »[34] و « مفهوم دلالة الإشارة عند المتكلمين لا يختلف عن مفهومها عند الحنفية ما دام كل منهما يعتبرها من اللازم غير المقصود »[35] ؛ فالنص لا يدل على المعنى بمنطوق عبارته ، وإنما يشير إليه بالالتزام ، لأن عبارته تستلزمه ، فكانت دلالة اللفظ عليه بطريق الإشارة لا العبارة .
ومن أمثلة دلالة الإشارة ، دلالة قوله تعالى : {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} (187- البقرة) فإنه يدل على صحة صوم من أصبح جنباً- لأنه يبيح الوطء إلى طلوع الفجر بحيث لا يتسع الوقت للغسل، وهذا يستلزم الإصباح على جنابة، و إباحة سبب الشيء نفسه، فإباحة الجماع إلى آخر جزء من الليل لا يتسع معه الغسل قبل الفجر إباحة للإصباح على جنابة.
ودلالة إيماء : أي فدلالة اللفظ على ما قصد به ولم يتوقف على إضمار.[36] فهي لا تكون إلا على علة الحكم خاصة . وضابطها :أن يذكر وصف مقترن بحكم في نص من نصوص الشرع على وجه لو لم يكن ذلك الوصف علة لذلك الحكم لكان الكلام معيباً.
عرف الإمام الغزالي الإيماء بقوله : « فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب »[37]
وعرفها الآمدي بقوله : « أن يكون التعليل لازما عن مدلول اللفظ وضعا ، لا أن يكون اللفظ بوضعه دالا على التعليل ».[38]
وعرفها الدكتور محمد أديب صالح بأنها « دلالة اللفظ على لازم مقصود للمتكلم ، لا يتوقف عليه صدق الكلام أو صحته عقلا أو شرعا ، وإنما بسبب اقتران الحكم بوصف أو غيره لو لم يكن للتعليل لكان اقترانه به غير مقبول ولا مستساغ »[39]
وهكذا فإن دلالة الإيماء هي : كل ما اقترن به الحكم الشرعي لو لم يكن علة له لكان اقترانه به مجردا عن الفائدة . والخطاب الشرعي لا يخلو عن فائدة ، لذلك فإن ما اقترن به الحكم الشرعي يومئ إلى أنه العلة فيه . ودلالة الإيماء يصطلح عليها أيضا دلالة التنبيه.
ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال لـه : "هلكت واقعتُ أهلي في نهار رمضان" فقال النبي : " أَعتقْ رَقبةً "  فلو لم يكن ذلك الوقاع علة لذلك العتق كان الكلام معيباً .
وكقوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما }[40] ، حيث نبه النص إلى أن القطع معلل بالسرقة وأنها سببه وبترتيبه الحكم على الفعل بفاء التعقيب والتسبب
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْطُوقِ غَيْرِ الصَّرِيحِ وَالْمَفْهُومِ أَنَّهُمَا وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حُكْمٌ غَيْرُ مَذْكُورٍ إلَّا أَنَّ الْمَفْهُومَ لَيْسَ حُكْمًا لِلْمَذْكُورِ وَلَا حَالًا مِنْ أَحْوَالِهِ بَلْ هُوَ حُكْمٌ لِلْمَسْكُوتِ كَالضَّرْبِ فِي آيَةِ التَّأْفِيفِ بِخِلَافِ الْمَنْطُوقِ غَيْرِ الصَّرِيحِ ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ لِلْمَذْكُورِ وَحَالٌ مِنْ أَحْوَالِهِ.[41]




تعريف المفهوم
المفهوم لغة:
هو اسم مفعول من فهم ، إذا فهم وعقل وعرف ، فالمفهوم هو المعقول والمعلوم ، وفي لسان العرب ، فهم : الفهم معرفتك الشيء بالقلب فهمه فهما وفهامة ، علمه ، الأخيرة عن سبويه.[42]
وأما معنى المفهوم اصطلاحا:
قال السيوطي : هو مادل عليه اللفظ لا في محل النطق.[43]
هذ التعريف قاله أيضا محمَّد بنْ حسَيْن في كتابه حيث زاد قوله بأنه المعنى المستفاد من حيث السكوت اللازم للفظ.[44]
وعرفه ابن السبكي بقوله : » ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق »[45] ، وهو عند الغزالي : » فهم غير المنطوق به من المنطوق ، بدلالة سياق الكلام ومقصوده »[46] ، وعرفه الآمدي بقوله : » ما فهم من اللفظ في غير محل النطق ».[47]
انطلاقا من هذه التعاريف يمكن القول أن المفهوم هو : ما دل عليه اللفظ في محل السكوت ، بحيث يؤخذ الحكم عن طريق دلالة اللفظ وسياقه وليس من عبارته ونطقه
وإذا كان المفهوم في الأصل لكل ما فهم من نطق أو غيره ; لأنه اسم مفعول من الفهم لكن اصطلحوا على اختصاصه بهذا ,وهو المفهوم المجرد الذي يستند إلى النطق، لكن فهم من غير تصريح بالتعبير عنه بل له استناد إلى طريق عقلي،  ثم اختلف العلماء في استفادة الحكم من المفهوم مطلقا : هل هو بدلالة العقل من جهة التخصيص بالذكر، أم مستفاد من اللفظ ؟ على قولين، قطع أبو المعالي في البرهان بالثاني، فإن اللفظ لا يشعر بذاته، وإنما دلالته بالوضع ولا شك أن العرب لم تضع اللفظ ليدل على شيء مسكوت عنه ; لأنه إنما يشعر به بطريق الحقيقة، أو بطريق المجاز، وليس المفهوم واحدا منهما , ولا خلاف أن دلالته ليست وضعية، إنما هي إشارات ذهنية من باب التنبيه بشيء على شيء.
أنواع المفهوم[48]
وينقسم المفهوم إلى قسمين : مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة ، وأساس هذه القسمة ، أن المسكوت عنه إما أن يكون موافقا للمنطوق به في النفي والإثبات أو مخالفا له فيهما ؛ فإن كان موافقا له سمي مفهوم موافقة ، وإن كان مخالفا له سمي مفهوم مخالفة .المفهوم نوعان: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة.
الأول : مفهوم الموافقة : هو ما وافق المسكوت عنه المنطوق في الحكم. ويسمى بفحوى الخطاب، ولحن الخطاب، وبالقياس الجلي، وبالتنبيه.وينقسم مفهوم الموافقة إلى قسمين باعتبارين:
Ø    الاعتبار الأول: ينقسم إلى: أولوي، ومساوي.
1.      مفهوم أولوي: وهو ما كان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق؛ كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب لأنه أشد، وذلك في قوله تعالى: { فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } [الإسراء: 23].
2.      مفهوم مساوي: وهو ما كان المسكوت عنه مساويًا للمنطوق في الحكم؛ كدلالة تحريم أكل مال اليتيم على تحريم إحراقه، وذلك في قوله سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } [النساء: 10]. فالأكل والإحراق متساويان؛ إذ الجميع إتلاف.
Ø      الاعتبار الثاني: أن مفهوم الموافقة منه ما هو قطعي، ومنه ما هو ظني.
1.    القطعي: ما قطع فيه بنفي الفارق بين المسكوت عنه والمنطوق، كما مر في المثالين السابقين.
2.   الظني: ما ظن فيه انتفاء الفارق، كأن يقال: «إذا ردت شهادة الفاسق فالكافر أولى؛ لأن الكافر قد يحترز من الكذب لدينه، والفاسق متهم في الدين».
حجية مفهوم الموافقة
قال الآمدي مبرزا حجية مفهوم الموافقة : » وهذا مما اتفق أهل العلم على الاحتجاج به إلا ما نقل عن داود الظاهري أنه قال : إنه ليس بحجة ، ودليل كونه حجة، أنه إذا قال السيد لعبده : لا تعط زيدا حبة ولا تقل له أف ولا تظلمه بذرة ولا تعبس في وجهه ، فإنه يتبادر إلى الفهم من ذلك امتناع إعطاء ما فوق الحبة وامتناع الضرب والشتم وامتناع الظلم بالدينار وما زاد، وامتناع أذيته بما فوق التعبيس من هجر الكلام وغيره»[49]
ولعل إنكار الاحتجاج بمفهوم الموافقة هو إنكار لحجية القياس ، لأن مفهوم الموافقة دائما يخرج في قالب قياس ، فقوله تعالى مثلا : { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } ينطبق عليه حكم القياس ؛ الأصل فيه التأفف والنهر المنصوص عليهما ، وحكمهما التحريم في حق الوالدين ، وعلة هذا الحكم هي إذاية الوالدين ، والفرع هو الضرب والشتم وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى إذاية الوالدين ، ولا معنى للقياس إلا هذا ، فالأصل في القياس هو نفسه المنطوق به ، والفرع هو المسكوت عنه الذي يأخذ حكم المنطوق به عن طريق مفهوم الموافقة .[50]
إلا أن حجية المفهوم الموافق في هذه الحالة أشد ظهورا من حجية القياس ، لأن علة الفرع في القياس لا تكون أشد ظهورا من علة الأصل ، لكن في فحوى الخطاب تكون العلة في المسكوت عنه أشد ظهورا من المنطوق به ، ولهذا فإن إنكار حجية القياس يستلزم عنه إنكار حجية مفهوم الموافقة ، وهو مذهب الظاهرية.[51]
Ø    شرط العمل بمفهوم الموافقة:
1.    أن يفهم المعنى من اللفظ في محل النطق،
2.   أن يكون المفهوم أولى بالحكم من المنطوق أو مساويًا له، وإنما يفهم ذلك من دلالة سياق الكلام وقرائن الأحوال.
قال ابن بدران موضحًا هذا الشرط: «يعني أن شرط مفهوم الموافقة فهم المعنى في محل النطق كالتعظيم ونحوه، فإنا فهمنا من آية: { فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } [الإسراء: 23] أن المعنى المقتضي لهذا النهي هو تعظيم الوالدين؛ فلذلك فهمنا تحريم الضرب بطريق أولى، حتى لو لم نفهم من ذلك تعظيمًا لما فهمنا تحريم الضرب أصلاً. لكنه لما نفى التأفيف الأعم دل على نفي الضرب الأخص بطريق الأولى»[52]
الثاني: مفهوم المخالفة: هو ما خالف المسكوت عنه المنطوق في الحكم. ويسمى بدليل الخطاب. وقال علي بن محمد بن علي الجرجاني صاحب التعريفات : مفهوم المخالفة هو ما يفهم منه بطريق الالتزام وقيل هو أن يثبت الحكم في المسكوت على خلاف ما ثبت في المنطوق.[53]
وينقسم مفهوم المخالفة الى ستة أقسام :
§         القسم الأول: مفهوم الصفة، كصفة السوم في قوله - صلى الله عليه وسلم: «في سائمة الغنم الزكاة»، فمقتضى هذا عدم وجوب الزكاة في المعلوفة غير السائمة، وليس المراد من الصفة كالمثال السابق.
§         القسم الثاني: التقسيم، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : «الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر»[54]. ووجهه: أن تقسيمه إلى قسمين وتخصيص كل واحدٍ بحكم؛ يدل على انتفاء ذلك الحكم عن القسم الآخر، ولو عم الحكم النوعين لم يكن للتقسيم فائدة.
§         القسم الثالث: مفهوم الشرط، والمراد به ما علق من الحكم على شيء بأداة الشرط، مثل: "إن" و"إذا"، وهو المسمى بالشرط اللغوي لا الشرط الذي هو قسيم السبب والمانع. وذلك كقوله تعالى: { وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق: 6]، فإنه يدل بمفهومه على عدم وجوب النفقة للمعتدة غير الحامل.
§         القسم الرابع: مفهوم الغاية، وهو: مد الحكم بأداة الغاية، مثل: إلى، وحتى، ومثال ذلك قوله تعالى: { فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } [البقرة: 230].
§         القسم الخامس: مفهوم العدد، وهو: تعليق الحكم بعدد مخصوص، نحو قوله تعالى: { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [النور: 4].
§         القسم السادس: مفهوم اللقب[55]، وهو: تخصيص اسم بحكمٍ، كالتنصيص على الأعيان الستة في الربا فإنه يمنع جريانه في غيرها.
أما إن استلزم اللقبُ أوصافًا صالحة لإناطة الحكم به فإنه يُعتبر مفهوم صفة لا مفهوم لقب، وذلك مثل لفظ: "رجال" في قوله تعالى: { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ } [النور: 36، 37]، فقد يظهر للناظر أنه مفهوم لقبٍ لا يحتج به، ولكن مفهوم الرجال ههنا معتبر؛ لأن الرجال لا تخشى منهم الفتنة وليسوا بعورة بخلاف النساء. ومعلوم أن وصف الذكورة وصف صالح لإناطة الحكم به الذي هو التسبيح في المساجد والخروج إليها دون وصف الأنوثة.
حجية مفهوم المخافة
تباينت وجهات نظر الفقهاء حول حجية مفهوم المخالفة ، فقد ذهب الحنفية إلى نفي حجية دليل الخطاب ، ووافقهم ابن حزم الظاهري في دعواهم ، وذهب المتكلمون إلى أنه حجة يصح الاستدلال به على الأحكام الشرعية . وقدم كل فريق أدلة تثبت صحة مذهبه ، وفيما يلي أهم هذه الأدلة :
أدلة النافين لحجية مفهوم المخالفة
نقل ابن حزم عن أبي محمد صاحب أبي حنيفة قوله : » هذا مكان عظيم فيه خطأ كثير من الناس وفحش جدا ، واضطربوا فيه اضطرابا شديدا ، وذلك أن طائفة قالت إذا ورد نص من الله تعالى أو من رسوله - صلى الله عليه وسلم - معلق بصفة ما أو بزمان ما أو بعدد ما ، فإن ما عدا تلك الصفة وما عدا ذلك العدد فواجب أن يحكم فيه بخلاف الحكم في هذا المنصوص »[56]
وقد خص ابن حزم الظاهري الجزء السابع كله من كتابه الإحكام في أصول الأحكام لبابين فقط : الأول في دليل الخطاب والثاني في إبطال القياس ، وأورد في دليل الخطاب "مفهوم المخالفة" خمسة فصول : فصل في باب دليل الخطاب ، وفصلان في إبطال ادعاء من يحتج به ، وفصلان في عظيم تناقضهم في هذا الباب ... وهذا يعني أن ابن حزم ينكر بشدة العمل بمفهوم المخالفة ، لأنه عبر عن هذا في مساحة مهمة من كتابه
أدلة العلماء على حجية مفهوم المخالفة
فإن علماء اللغة العربية فيعملون بمفهوم المخالفة ، ومن أئمتهم أبو عبيدة وتلميذه عبيد ؛ اللذان قالا في حديث { مطل الغني ظلم }[57] ، أنه يدل على أن مطل غير الغني ليس بظلم ، وهم إنما يقولون في مثل ذلك ما يعرفونه من لسان العرب[58]. والإمام الشافعي - رضي الله عنه - وهو أيضا من أئمة اللغة الذين يحتج بقولهم ـ احتج بقوله الأصمعي وصحح عليه دواوين الهذليين ـ اعتبر مفهوم المخالفة حجة شرعية .[59]
وأما كبار صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستنبطوا أحكاما بدليل الخطاب ، لأنهم فهموا من قوله تعالى : { وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا }[60] ، أن القصر لا يكون إلا في حالة الخوف ، وأنه لا يكون في حالة الأمن ، وهذا عمل بالمفهوم المخالف ؛ فقد سأل يعلى بن أمية سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ما بالنا نقصر وقد أمنا ؟ فقال له عمر : تعجبتُ مما تعجبتَ منه فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : { صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته }[61] ،[62] ، ونفهم من هذا الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقر عمر - رضي الله عنه - على أخذه بمفهوم المخالفة ، لأن تقصير الصلاة الرباعية في حالة الأمن صدقة من الله بمنطوق الحديث ، والمنطوق الصريح يترجح على المفهوم المخالف للآية ، لأن المنطوق يقدم على المفهوم عند تعارضهما . وكذلك الفقهاء فعملوا بمفهوم المخالفة.
شرط العمل بمفهوم المخالفة
للعمل بمفهوم المخالفة عند القائلين به شروط.[63]
أولا ، أن يكون قيد المنطوق به معتبرا في الحكم ، فإن لم يكن كذلك بأن جاء لغرض آخر فلا مفهوم له.
فقوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } ، لا مفهوم مخالف له ، لأن القيد { خشية إملاق} جاء حكاية لحال العرب في الجاهلية ، جريا على الغالب الأعم حيث كان العرب يقتلون أولادهم خوفا من الفقر .
ثانيا ، ألا يعارض المفهوم المخالف منطوقا صريحا
 كقوله تعالى : { وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ، فإن تقييد قصر الصلاة بالخوف، يدل بمفهومه المخالف على عدم جواز القصر في حالة الأمن . ولكن هذا الحكم لا يعمل به لأنه يتعارض مع المنطوق الصريح لقوله - صلى الله عليه وسلم - في شأن قصر الصلاة في السفر مع الأمن : { صدقة تصدق الله بها عليكم } ، فنعمل بالمنطوق ونترك المفهوم المخالف .
ثالثا ، ألا يذكر الشارع حدا محصورا للقياس عليه.
كقوله - صلى الله عليه وسلم - { اجتنبوا الموبقات السبع } ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقصد حصر الموبقات وهي الكبائر في سبعة ، وإنما ذكرهن ليلحق بهن ما في معناهن ، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : » هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع » ، ولذلك فالعدد سبعة لا مفهوم له .
رابعا ، ألا يخرج القيد عن سؤال .
فقد روى عبد الله بن عمر أن رجلا قال : يا رسول الله كيف صلاة الليل ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : { مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة }[64] ، فإذا كان هذا الحديث وقع فيه التخصيص بالليل لأجل وقوع السؤال عليه، فلا مفهوم له في صلاة النهار.[65]
والجامع لهذه الشروط: أن يكون تخصيص المنطوق بالذكر لكونه مختصًا بالحكم دون سواه.
قال ابن النجار:ثم الضابط لهذه الشروط وما في معناها أن لا يظهر لتخصيص المنطوق بالذكر فائدة غير نفي الحكم عن المسكوت عنه.[66]
ماذا نقدم : المنطوق أو المفهوم ؟
قال الشيخ مصطفى قاري في مراقي الصعود : المنطوق إنما يقدم على المفهوم إذا استويا في الدرجة بأن كانا عامين أو خاصين ، أما إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا فإنه يقدم الخاص ولو كان مفهوما . فالمفهوم الخاص أقوى في الدلالة من المنطوق العام.

الأمثلة  في تطبيق قواعد المفهوم
1.      عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: " نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"[67]
هذا الحديث فيه دلالة المنطوق التي تدل على طهورية جميع الأجزاء من الأرض، ولكن يخصص هذا الحديث بهذا الحديث التالى :
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم * فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء[68]
الحديث الثانى يدل بمفهومه على تخصيص جزء الأرض الذي يصح به التيمم هو مكان فيه تراب لا غير.
2.   عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين"[69]
دلالة هذا الحديث دلالة مفهوم وهو مفهوم لقب، وظاهر الحديث يدل على وجوب السجود على هذه الأعضاء وعدم صحة السجوط على غيرها.
3.           عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتْنُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ .قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَقَدْ جَوَّدَ أَبُو أُسَامَةَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَلَمْ يَرْوِ أَحَدٌ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ أَحْسَنَ مِمَّا رَوَى أَبُو أُسَامَةَ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَفِي الْبَاب عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ. [70]
هذا الحديث يدلَّ بمنطوقه على طهارة الماء الكثير وكذا القليل الذي لم يتغير بالنجاسة. وقد خصص هذاالحديث بالحديث التالى :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : يَقُولُ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلاةِ وَمَا يَنْتَابُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ، فَقَالَ : " إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ " .[71]
الحديث الثانى يدلَّ بمفهومه على نجاسة الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة ولو لم يتغير. وعند تعارض المنطوق والمفهوم : اما اذا كان احدهما خاصا فيُقَدَّمُ الخاص ولو كان مفهوما لانه في الدلالة، ونتيجة الجمع بين الحديثين هي الماء القليل ينجس بسبب وقوع النجاسة فيه.
الخلاصة
1.    مسائل المنطوق والمفهوم فيها خلافات كثيرة بين أهل العلم، فلا تظن أن يكون الجواب قولا واحدا.
2.   أنواع المفهوم تتفاوت ، وفي كثير منها خلاف، وأقواها ما إذا كان الكلام مبنيا على التقسيم مع ترك أحد الأقسام اختصارا؛ كما إذا قلت: " الناس قسمان فالسعيد منهم كذا)، فيفهم من الكلام أن غيره ليس كذلك، فهذا مفهوم ولكنه في قوة المنطوق.
3.    يشترط في حجية المفهوم أن لا يخرج مخرج الغالب، ومعنى خروجه مخرج الغالب أن يكون المذكور معه هو الغالب الكثير فيه بحيث ينصرف الذهن إليه لو لم ينص عليه.
4.    أن دلالات العموم تختلف قوة وضعفا، ودلالات المفهوم الخاص تختلف كذلك، ومن ثم لا يصح إصدار حكم واحد في الترجيح بينهما، بل ينظر إلى أقوى الدلالتين فيرجح، وفي هذا مجال واسع لاختلاف العلماء؛ لأن معظم خلافات العلماء أصلا في تقديم دليل على دليل، واختيار أقوى الدلالتين.
5.    والله اعلم بالصواب.

المراجع
§       ابن منظور ، لسان العرب ، الناشر : دار صادر – بيروت .
§       إبراهيم مصطفى ، المعجم الوسيط .
§       أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي ، تاج العروس
§       تقي الدين ابن النجار، شرح الكوكب المنير, (مكتبة العبيكان), الطبعة الثانية ، 1997 م، ج:3
§       جلال الدين السيوطي, الإتقان في علوم القرآن, الجزء الثالث, (القاهرة:مكتبة دار التراث), الطبعة الأولى, 2007م. 
§       زكريا الأنصاري ، غاية الوصول في شرح لب الأصول.
§       عبد القادر بن بدران الدمشقي ، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، الناشر : مؤسسة الرسالة – بيروت ، الطبعة الثانية ، 1401
§       محمَّد بنْ حسَيْن, معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة, (دار ابن الجوزي), الطبعة الخامسة ، 1427 هـ.
§       المنطوق والمفهوم بين مدرستي المتكلمين والفقهاء ، محمد اقصري.



[1]  ابن منظور ، لسان العرب (10\354)، الناشر : دار صادر – بيروت .
[2]  مناهج الأصوليين لخليفة بابكر الحسن: ص 63
[3]  أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي ، تاج العروس (1\6595)
[4]  القاموس المحيط (1/1195) ، الفيروزآبادي
[5]  حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (2\267) ، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل (1\271) ، عبد القادر بن بدران الدمشقي ، الناشر : مؤسسة الرسالة – بيروت ، الطبعة الثانية ، 1401
[6]  مناع القطان (1/250) ، مباحث في علوم القرآن ، منشورات العصر الحديث ، 1973
[7]  غاية الوصول في شرح لب الأصول (1\23) ، الشيخ زكريا الأنصاري .
[8]  حاشية العلامة البناني على شرح المحلي على متن جمع الجوامع: ج1 ص238.
[9]  الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: ج3 ص66.
[10]  الخطاب الشرعي وطرق استثماره لإدريس حمادي: ص211، عن شرح العضد على مختصر المنتهى:ج2 ص171.
[11]  إبراهيم مصطفى ، المعجم الوسيط (2\782)
[12]  أصول الفقه للعربي اللوه : ص297.
[13]  الإحكام للآمدي: ج3 ص94، مع أصول الفقه للعربي اللوه: ص297.
[14]  الجامع الصحيح (1/140)، مسلم ، الناشر : دار الجيل بيروت + دار الأفاق الجديدة ـ بيروت.
[15]  البخاري (6789) وَاللَّفْظُ لِمُسْلِم (1684): عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم  : لَا تُقْطَعُ يَدُ سَارِقٍ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا.
[16]  رواه مسلم ( 1598 )
[17]  رواه مسلم
[18]  حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (2\262)
[19]  الخطاب الشرعي وطرق استثماره: ص212.
[20]  المنطوق والمفهوم بين مدرستي المتكلمين والفقهاء (1/5)، محمد اقصري.
[21]  حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (2\262)
[22]  الخطاب الشرعي: ص212.
[23]  تفسير النصوص: ج1 ص594.
[24]  أخرجه ابن حبان (9/465 ، رقم 4157) , الشافعى (1/274)
[25]  سنن أبى داود (2245) ، سنن ابن ماجه (2027) ، مسند أحمد (18527) ، صحيح ابن حبان (462) ، سنن البيهقي (14439) ، سنن الدارقطنى (37399)
[26]  سنن ابن ماجه (1877) ، سنن الدارمى (1674) ، السنن الكبرى للبيهقي (7506) .
[27]  غاية الوصول في شرح لب الأصول (2\23) زكريا الأنصارى.
[28]  أصول السرخسي: ج1 ص248.
[29] الخطاب الشرعي: ص230 عن فتح الغفار: ج2 ص48.
[30]  غاية الوصول في شرح لب الأصول (2\23) زكريا الأنصارى.
 [31]المستصفى: ج2 ص188.
[32]  حاشية البناني على شرح المحلي على متن جمع الجوامع: ص238.
 [33]تفسير النصوص: ج1 ص605.
[34]  كشف الأسرار للبخاري: ج1 ص68.
[35]  الخطاب الشرعي: ص224.
[36]  غاية الوصول في شرح لب الأصول (2\24) زكريا الأنصارى.
[37]  المستصفى: ج2 ص189.
[38]  الإحكام للآمدي: ج3 ص254.
[39]  تفسير النصوص: ج1 ص601.
 [40]سورة المائدة الآية 40.
[41]  حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (2\270)
[42]   لسان العرب ج12 ص419.
جلال الدين السيوطي, الإتقان في علوم القرآن, الجزء الثالث, (القاهرة:مكتبة دار التراث), الطبعة الأولى, 2007م, ص : 101.  [43]
[44] محمَّد بنْ حسَيْن, معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة, (دار ابن الجوزي), الطبعة الخامسة ، 1427 هـ, ص:448.
[45]   حاشية العطار على جمع الجوامع: ج1 ص317.
[46]المستصفى: ج2 ص190.
[47]   الإحكام للآمدي: ج3 ص66.
[48] انظر: "مختصر ابن اللحام" (132)، و«شرح الكوكب المنير» (3/481)، و«مذكرة الشنقيطي» (237).

[49] الإحكام للآمدي: ج3 ص67 / 68.
[50]   المنطوق والمفهوم بين مدرستي المتكلمين والفقهاء ص.22 ، محمد اقصري.
[51]  المصدر السابق
محمَّد بنْ حسَيْن, معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة, ...ص:452. [52]
[53]  التعريفات (1/288) ، علي بن محمد بن علي الجرجاني ، تحقيق : إبراهيم الأبياري ، الناشر : دار الكتاب العربي – بيروت ، الطبعة الأولى ، 1405
 انظر صحيح مسلم, كتاب النكاح, باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق وبالبكر بالسكوت, رقم الحديث :1422.[54]
[55] ضابط مفهوم اللقب عند الظاصوليين :هو كل اسم جامد سواء كان اسم جنس، أو اسم جمع، أو اسم عين، لقبًا كان أو كنية أو اسمًا.  
[56]   الإحكام لابن حزم: ج7 ص323.
[57]  أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض وأداء الديون، باب مطل الغني ظلم.
[58]  أصول الفقه للعربي اللوه: ص301.
[59]  مناهج الأصوليين: ص257.
[60]  سورة النساء الآية 104.
[61]   أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها.
[62]  المستصفى: ج2 ص197.
[63]   انظر: "مختصر ابن اللحام" (133)، و"القواعد والفوائد الأصولية" (290 - 292)، و"شرح الكوكب المنير" (3/489) وما بعدها، و"مذكرة الشنقيطي" (241).
[64]  أخرجه البخاري في كتاب التهجد باب كيف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -
[65]   مفتاح الوصول: ص114 / 115.
 تقي الدين ابن النجار، شرح الكوكب المنير, (مكتبة العبيكان), الطبعة الثانية ، 1997 م، ج:3، ص:496. [66]
البخاري "335" ومسلم "521" كلاهما بلفظ: الغنائم أما المغاين فمن لفظ مسلم "523" وأوله "فضلت بست...  [67]
 صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة, رفم الحديث : 523.[68]
 البخاري "812" ومسلم "490" "230" وفيهما زيادة هي: "ولا نكفت الثياب والشعر" ولفظ الصحيحين "على أنفه".[69]
 انظر جامع الترمذي رقم :66, سنن ابو داود رقم :65, 66, سنن النساء الصغرى رقم :326.[70]
 انظر سنن الدارقطني رقم :  15,  ، سنن ابن ماجة رقم 517[71]:

Tidak ada komentar:

Posting Komentar